براءة الأطفال هي سرُّ جاذبيتهم وعنوان نقاء سريرتهم التي لم تتلوَّن بانتهازية الحياة، والتي كانت تتجلى في جمال كلماتهم ووجوههم أيضًا، ولكن حتى البراءة غيَّرَها الزمن؛ فأصبح الصغير يتحدث بلسان صاحب العشرين، وتفتحت عيون الصغيرة على المكياج وصيحات الموضة والأزياء، فمن أين تفتَّحت عيونهم على هذه الأشياء؟ وكيف نعيد لأولادنا براءتهم؟
وأكدت الدراسات أن مشاهدة الأطفال للتليفزيون لفترات طويلة تتسبَّب في إنتاج أجسامهم كمياتٍ أقل من "الميلاتونين"، وعن هذا الموضوع يقول مجموعة من الباحثين في جامعة فلورنسا في إيطاليا قد يكون أحد الأسباب في البلوغ المبكِّر للفتيات، وكانت هناك دراسة سابقة قد أشارت إلى أن الفتيات في إيطاليا يبلغن في وقت مبكر نسبيًّا مقارنةً مع الفتيات في الخمسينيات من القرن الماضي، وكان العلماء في فلورنسا لاحظوا أن "الميلاتونين" الذي يسمَّى أيضًا هرمون النوم يزداد إفرازه في جسم الأطفال بمعدل 30% إذا توقفوا عن مشاهدة التليفزيون.
تعوَّدت ندى حسام الدين (8 سنوات) على الذهاب إلى الكوافيرة منذ أن كانت في الحضانة؛ فكانت تصطحبها والدتها إلى الكوافير لعمل شعرها في المناسبات؛ ولأن الكوافير قريب من منزلهم فكانت أحيانًا تذهب إليه ندى بمفردها، ورغم صغر سنِّها كانت تختار تسريحات شعرها؛ ففي مرة اصطحبت معها صورة فيها تسريحة أعجبتها، وطلبت من الكوافيرة أن تنفِّذها لها واستجابت الكوافيرة لمطلبها.
طفل السجائر
وحكت لنا نجوى محمود (طالبة بكلية الآداب) عن الطفل الصغير الذي قابلته في إحدى الفنادق وكان عمره حوالي سبع سنوات، وكان في صحبة إخوته البنات ووالدته، وصُدِمت نجوى عندما رأته يتبادل مع إخوته السيجارة، ويتناول معهم الخمور، ودَّت وقتها أن تنهض لتخطفه من أمه غير الأمينة على طفولته ومستقبله.
وهذه والدة سهيلة عبد الرحمن (5 سنوات) التي حكت لنا عن مكالمة سهيلة التليفونية مع إحدى صديقاتها (مكالمة وهمية)، وقررت سهيلة أن تُنهي مكالمتها معتذرةً لصديقتها لقرب موعد قدوم (زوجها) من العمل ويجب أن تتزيَّن له استعدادًا لرجوعه، فهذه هي سهيلة بنت الخمس سنوات.
طموحات حفيدتي!
أما ياسمين محمد (6 سنوات) فقالت لنا جدتها: سألتُ ياسمين ماذا تحبين أن تعملي عندما تكبرين؟ فصدمتها الصغيرة عندما أجابتها: كوافيرة أو راقصة؛ ليصبح معي نقود وأشتري سيارةً ومكياجًا.
وجذب انتباهنا حب ملك ناصر (أربع سنوات) لعمَّتها، وأخبرتنا والدتها أن عمَّتها تشتري لها الملابس الجميلة، وأهدتها شنطة مكياج للأطفال، وتحرص ملك على استخدام هذا المكياج قبل النزول من المنزل وتأخذه في شنطة يدها أيضًا، وهذه هي نقطة الخلاف الدائم بين ملك ووالدتها.
وأبدى خالد إسماعيل (خمس سنوات) اعتراضه على إهمال أمه في مظهرها وينصحها بالتزيُّن والاهتمام بمظهرها، ويقول لها: "حتى لا يتركك بابا ويتزوج بأخرى".
جودي عصام (أربع سنوات) أحبَّت طرحة العروس التي يحتفظون بها في منزل جدتها، وكلما تذهب إليهم يزيِّنوها بالطرحة وتلبس الحذاء ذا الكعب العالي، وهكذا تعوَّدت جودي من معاملة أقاربها
سن التقليد
يرى د. سعد رياض الاستشاري النفسي والتربوي أن هذه السلوكيات من أشكال التقليد بسبب ما يشاهده الأطفال على شاشات التليفزيون بصفة خاصة ووسائل الإعلام الأخرى بصفة عامة؛ فالطفل يبدأ في الاكتشاف منذ سن أربع أو خمس سنوات؛ فيبدأ في ملاحظة الشخصيات، ويتشكَّل بصفاتهم دون الانتباه أو إدراك طبيعة مستواهم (تقليد أعمى)، والتدعيم السلبي من جانب الآباء ومدحهم، يجعل الطفل يعتقد أنه فعل شيئًا محببًا، ومن الأضرار التي يتعرض هذا النوع من الأطفال لها: "فقده لهويته".
فعدم احترامه لطفولته يجعله لا يستمتع بها، وعندما يصل لسن 15 سنة يبدأ في استعادة ذكرياته فيكتشف تلقائيًّا أنه بحاجة للعودة لمرحلة الطفولة ليشبعها من خلال اللعب والمرح وتظهر عليه أعراض اضطراب الشخصية وتبدأ الشكوى والمعاناة من عدم نضج أولادنا ونتغافل أن الخلل كان في المرحلة الأولى.
وأضاف رياض أن الأمر لم يصل للظاهرة ولكنه جزء من ظاهرة بدأت في الانتشار، والتعامل معها لا بد أن يكون بحكمة وبشكل متوازن؛ فلا ننهره، وفي الوقت نفسه لا نعطيه اهتمامًا؛ فالتركيز على هذه التصرفات والوقوف عليها يأتي بنتيجة سلبية، والحل المناسب هو البحث عن مصادر لتنفيس الطاقة وتغيير مسار الكلام، بالتكرار يتفهم أن تصرفاته غير مقبولة ويتخلى عنها تدريجيًّا وينساها.
مرحلة التقمُّص
وترى د. سعيدة أبو سوسو أستاذ علم النفس جامعة الأزهر أن التقليد في هذه الجوانب يمكن ردُّه إلى الفطرة من ناحية والتقليد من ناحية أخرى، وخاصةً في هذه السن الصغيرة؛ فنجد الطفل الذكر يقلِّد والده في التصرفات، وكذلك الأنثى تعتبر والدتها هي النموذج الذي تسير عليه، وأشار إلى أن تقليد الطفل في هذه التصرفات أمر طبيعي، ويجب عدم معاقبته على ذلك؛ "حتى لا أضطره إلى استخدام العناد؛ فبالحكمة ممكن أتركه يشبع رغبته في المنزل في لبس ما يحب وعلى الجانب الآخر لا أترك له الأمور على غاربها".
أما ميرفت محمد (الاستشارية الاجتماعية) فترى أن هذه المظاهر هي رد فعل للتربية غير السوية، إلى جانب العوامل الدخيلة، والتي تعتبر عوامل مهمة في التربية، فلم يعد البيت كما كان هو المسئول الوحيد عن تربية الأطفال، بل أصبح الطفل يكتسب مهاراته وخبراته من الألعاب التي يلعبها ومن أفلام الكارتون التي يشاهدها، والتي تطرقت إلى الحديث عن موضوعات تخص الكبار وتظهر الشخصيات الكارتونية واضعةً مكياجًا وترتدي ملابس على الموضة، وتعلّق بتعليقات غير ملائمة، والطفل بطبيعته يسجِّل ويقلِّد ما يراه
وتكمن المشكلة في أن طبيعة المادة التي تقدّم للأطفال تفتقد للرقابة المنزلية وحسن الاختيار، خاصةً أن هذه الأشياء تلمس فطرة التجمل التي يتمتع بها الأطفال والبنات، فتبدأ الطفلة الصغيرة تطالب أمها بإحضار هذه الأشياء؛ لأنها ترى أنها أمر عادي، وكذلك الأطفال الذكور يستهويهم استخدام عبارات كبيرة غير مناسبة لأعمارهم القليلة، والأم الماهرة هي التي تعترض على التصرفات الخاطئة التي يفعلها، مبرِّرةً سبب اعتراضها، وتستعين بصديقتها التي يحبها أولادها لتخبر الأطفال أن هذه التصرفات غير مناسبة، أو جارتها التي تتردَّد عليهم، والأفضل مدرِّسة الحضانة؛ لأن الأطفال في الغالب يحبونها ويتقبَّلون منها الكلام.
كما أن استخدامها الأساليب التربوية يزيد من احتمال نجاحها في إقناع الطفل؛ فلو توفرت القدوة السليمة في البيت والحضانة وقتها يمكن التصدي للتصرفات الغريبة التي يتصرفها أولادنا وتُخرجهم عن طفولتهم، والتي يترتب عليها الكثير من الأضرار التي تجعله الطفل شخصية غير سوية، كأن يكون عصبيًّا عنيدًا حادًّا، وعندما يتزوج وينجب يحرم أولاده من طفولتهم بغير قصد منه؛ ففاقد الشيء لا يعطيه.
المنهج النبوي
ويوضح الدكتور محمود محمد عمارة في كتابه (تربية الأولاد في الإسلام) أن تقليد لأطفال لتصرفات الكبار شيء طبيعي في مثل هذا السن، ويعد العنف والتوبيخ والسخرية والتحقير من مظاهر سوء المعاملة التي قد يقع فيها الآباء مع أطفالهم؛ فالمنهج النبوي في التربية أرشدنا إلى التعامل مع عقل الطفل مهما كان صغيرًا بالإقناع وتبرير التصرفات؛ فعنه صلى الله عليه وسلم أنه نهر أحد أحفاده عندما أكل من تمر الصدقة وقال له: "إنها أوساخ الناس"، وبرَّر النبي صلى الله عليه وسلم لحفيده صغير السن سبب تصرفه معه؛ حتى لا يشعر الصغير بالقهر والاستبداد.
وعلى هذا الدرب يجب أن يتعامل الآباء مع أبنائهم بالإقناع والرحمة والحسم في نفس الوقت، فقال صلى الله عليه وسلم: "علموا أولادكم الصلاة لسبع"، واستخدامه لفظة "علموا" اعتراف صريح بأن هذه السن تتقبل التعليم بصورته المنطقية، وقد قال صلى الله عليه وسلم أيضًا: "لاعبوهم سبعًا، واضربوهم سبعًا، وصاحبوهم سبعًا، ثم اتركوهم في الحياة".
تقبلوا تحياتي
أخوكم مودي
ولا تنسوا الردود