القلب مثقل حزين ... لما استبق النهار في النهوض بساعة ؟ .. ارتدى ثيابه .. استسلم لنسيم الصباح بعبيره الحبيب ... فغزا عقله بتيار من ذكريات .. جل الذكريات .. عن القرية الرابضة خلف التلال ... يجترها وهو يمخر عباب حقول القمح والكتان بحذائه الأسود ... سيتحدث اليها ... سيفعل .. ولم يلحظ أن الشمس قد احتلت كبد السماء .. الا حينما وخزت اشعتها جلده الأسمر .. عبر قميصه الأبيض ... وعاد يفكر ... متى تأتي ؟
جلس الى حافة بئر الساقية ... تأمل الماكينة الحديثة التي ترقد بجوارها ... صارت الروافع الكهربائية اليوم هي من تجلب مياه الترع الى حياض الزراعات ... لهذا لم يعد يحتفظ ابيه الا ببقرتين .. لم تعد لها نفس الأهمية في الري .
بيت عمه "ياسين" ... يلوح له من بعيد يبدو كئيبا لكنه عتيد ... تشع قرميداته الفريدة صبرا وسماحة سوف تخرج عنه الآن ... "ليلى" .. سينضم اليها ليتناولا القهوة ويتشاركا الفطور.
متى بنى عمه هذا البيت البديع ؟ ... بشرفته العريضة الدافئة التصميم ... افريزه الخشبي ... ونوافذه الأنيقة .. يوما ما كان كل ما بالبيت ومن في البيت يجذبه ... فاذا حل الصيف صار الكون كله في نظره هو بيت العم "ياسين" ومحور اهتمامه وأخته "نجيبة" ...
متى تستيقظ "ليلى" ؟ .. لم يعهدها كسولة ... نظرة الى ساعته أخبرته بأن النهار قد اوشك على الانتصاف سيؤَذن للظهر بعد نصف ساعة وسيبحث عنه اباه ليصحبه الى المسجد ... قفل عائدا للدار ... يفكر .. غدا بداية الاسبوع وعليه العودة الى العاصمة الليلة ... ليوافي عمله في الموعد.
الليلة يسافر؟ اذا سيتأجل الأمر للأسبوع المقبل؟ ... يعلم أنه لن يعيدها الى صوابها سواه ... لكن لما يحار فيما سيبتدرها به من كلمات ؟ ... ربما بسبب السنوات التسع ... التي تفصله عن ليال الروايات
وصل الى الدار فاستقبلته "زينب" ... بلهجة المتوتر : اين كنت ؟
فقال : في الحقل ...
هي : أي حقل ؟
هو : قرب بيت عمي
هي : ليست هناك اليوم فقد اصطحبت "أنهار" و "عمر" الى المدينة اليوم
هو : حقا ؟ .. لهذا فالبيت ساكن
فصاحت أمهما في غرفة الطهو القريبة من باب الدار الخلفي : يا "علي" .. أهذا أنت ؟
فأجابها "علي" بسرعة : أجل يا أماه ...
وأمسكت "زينب" بإحدى أكمام أخيها وقالت: لا تخبرها أنك خرجت في طلب "ليلى"
نظر اليها كمن يقلب نصيحتها في رأسه .. و قال : حسنا .. ثم انطلق صوب أمه
وجاءت "نجيبة" من داخل الدار تسأل "زينب" : أهذا "علي" من سمعتُ صوته ؟
فقالت "زينب" : نعم هو .. قصد بيت العم "ياسين" اليوم .. ويبدو انه انتظر طويلا قبل ان يملّ الحرارة ورائحة العرق
"نجيبة : " ألم يتخلّ عن تلك الفكرة الحمقاء بعد؟ فيمَ الحديث اليها وقد انتقدت أفعالها سائر القرية؟ لم تعد طفلة أو ضعيفة .. هي سيدة مجتمع ... أم وزوجة ... تدرك تماما اين تمضى بها الراحلة.
واستطردت المرأة بحنق ضَجِر :
بالله لست راضية عن استمالتها لولدي "عمر .." فهو الأخر مسحور بها وابنتها.
"زينب" : لا شأن لي بالأمر .. كل ما استطيع قوله ... ان كان أخانا ينوي التحدث اليها فلا داع لأن يحاط أبواه علما بذلك والا زادت شقة الخلاف بين الجميع بمن فيهم ابنة عمك الكارثة ... لما لا يلتقيها بعيدا عن القرية في الاقليم مثلا يوم تبضعها أو العاصمة حيث عملها واقامتها الرئيسية ؟
أنهى "علي " فطوره السريع .. توجه نحو غرفته ليبدل ثيابه ويغتسل استعدادا للصلاة ... حينها رمق هاتفه الشخصي ... باغتته غصة الذنب ... ثلاث مكالمات فائتة ... ورسالة .. كلهن لنفس الرقم ... "أمل" :
وددتُ أن أنعمَ بصوتك حين ترد عليّ تحيتي الصباحية ... انما نسيم القرية يبدو قد أسكرك .. فنسيتنا ... اشتقتُ اليك ... لا تتأخر غدا.