ياسر عرفات رجل كل المهام والمراحل

سيظل ياسر عرفات قصّة تُحكى للفلسطينيين، وسيظل تاريخه لغزاً يستحيل فك رموزه، وستظل بصماته واضحة على الحقبة الممتدة على مدى نصف قرن.ياسر عرفات –شئنا أم أبينا- أثّر فينا وكان أحد المحاور التي دارت عليها حركتنا السياسية، وأحد الأقطاب الذي شدّ عملنا الوطني والنضالي، وأحد أهم العناصر التي أثّرت في المشروع السياسي الفلسطيني سلباً أو إيجاباً.
ياسر عرفات كان مفصلاً من مفاصل القضية، وعلماً من أعلامها، وجداراً من جدرانها، ومعلماً من معالمها. فهو من أوائل المؤسسين للمسيرة الوطنية الفلسطينية منذ أواسط الخمسينيات، وهو

من مؤسسي حركة فتح، وهو من أول الفدائيين.
أبو عمار أسس حركة فتح وشكّل نواتها العسكرية.
أبو عمار ساهم بشكل ما في انطلاقة منظمة التحرير الفلسطينية وبناء هياكلها ومؤسساتها.
أبو عمار أنشأ المجموعات العسكرية داخل فلسطين وفي الأردن وسوريا ولبنان.
أبو عمار صنع اللغم الفتحاوي الأول، وبعث المجموعة الفدائية الأولى، وخطّ أول بلاغ عسكري.
أبو عمار افتتح العمل الدبلوماسي الفلسطيني.. فأرسل الوفود ونظّم البعثات، وافتتح المكاتب الخارجية والممثليات وأشرف على الاتصالات الخارجية، وسير حركة العلاقات الدولية، ومدّ جسور فتح نحو بكين وموسكو والجزائر والقاهرة.
أبو عمار أنشأ وسائل الإعلام في فتح وعيّن مسؤوليها ورسم خطّها الإعلامي ونظّم المؤتمرات الصحفية.
أبو عمار تسلّم التبرعات المالية، وفتح الحسابات في البنوك، ووقّع على التحويلات وأوامر الصرف وسدّد فواتير كبار وصغار المسؤولين، وحده يعرف من أين تأتي الأموال وإلى أين تذهب. وحده يعرف موازنة كل فصيل ومخصص كل مسؤول ومرتّب كل كادر ونفقات كل مهمة.
أبو عمار أدار الاستثمارات المالية وأشرف على المشاريع الاقتصادية وترأس المجالس الاقتصادية، وتحكم بالصندوق المالي للمنظمة.
أبو عمار أشرف على العلاقات الفلسطينية العربية ونسّق العلاقات الفلسطينية الدولية وتحكّم بالعلاقات مع الأمم المتحدة، حتى قواتها الدولية في جنوب لبنان، وسيّر عمل السفراء بشكل كامل.
أبو عمار أشرف على شراء الأسلحة وأدار صفقات التسلح وحدّد نقاط بناء المخازن ووقّع أذونات تسليم الأسلحة.
أبو عمار كانت تعود له وحدة قرارات شراء المواد التموينية وتوزيعها وتخزينها، وهو المخوّل وحده توزيع المعلبات والطحين والبنزين.
أبو عمار تدخّل في عمق العمل العسكري وتشكيل مجموعات المقاتلين ووضع جداول الترقية وزيادة المرتبات واعتماد رؤساء الوحدات العسكرية، والإشراف على عمل غرفة العمليات وتسيير وحدات الاستطلاع، وتحديد أوقات الرد على مصادر نيران العدو، وإرسال البعثات العسكرية للتدريب في الدول الصديقة، وتحديد ساعة الصفر لتنفيذ العمليات.
أبو عمار أسس عدداً من الأجهزة الأمنية وتدخّل في عمل الأجهزة الأخرى، وشكّل عدة مرجعيات أمنية وحلّ عدداً من الأجهزة التي لم تكن تتماشى مع رغباته، وعطّل عمل بعضها وربط المنسّقين الأمنيين الفلسطينيين مع أجهزة المخابرات العالمية بمكتبه.
أبو عمار رتّب استضافة فتح والمنظمة لمجموعات عسكرية من قوى التحرر العالمية للتدريب، وأشرف على التنسيق معها، وحدّد آليات العمل مع أكثر من قوة تحررية من العالم الثالث.
أبو عمار كان صانع القرار في فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، ورئيس المطبخ السياسي بلا منازع، وعرّاب المشاريع والمبادرات السياسية التي تعرضها المنظمة، والجهة الوحيدة المخولة بقبول ورفض المبادرات السياسية. عنده تلتقي كل الرؤى السياسية وأمامه تُعرض كل المبادرات ومن مكتبه تصدر كل التقارير والمعلومات أو تسرب كل بالونات الاختبار.
أبو عمار هو المرجع الرئيسي للمفاوضات، وهو الناظم لها ولحركتها، وهو الذي يعيّن الوفود التفاوضية ويرسل المفاوضين، ويحدد مرجعية المفاوضات ويوجه المفاوضين.
أبو عمار هو من يحدد سقف المفاوضات إن كان لها سقف، وقعرها إن ظلّ لها قعر.
أبو عمار هو من يضع سياسات التفاوض ويرسم خطاً لما يمكن التنازل عنه، ويحدد ضوابط المفاوضين.
أبو عمار هو رئيس السلطة الفلسطينية ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ورئيس الوزراء وزعيم حركة فتح والقائد الأعلى للقوات المسلحة ورئيس مجلس الأمن القومي ورئيس المجلس الاقتصادي.
أبو عمار كان المشرف على أحوال التجمعات الفلسطينية داخل فلسطين وخارجها، والعارف بتفاصيل المخيمات والجامعات والاتحادات والنقابات واللجان الشعبية والروابط. لذلك لم يكن مفاجئاً أن يكون هو المرجعية لأي قرار لإغاثة أو تنمية أي مخيم، أو لإنشاء أي مشروع أو لتشكيل اللوائح الانتخابية والتحالف مع هذا الفصيل أو ذاك.
أبو عمار كان همزة الوصل في العلاقة مع الفصائل الفلسطينية والأحزاب العربية والقوى الإسلامية والعائلات التقليدية والحكام والرؤساء الحاليين والسابقين والقوى والهيئات المدنية والدينية.
أبو عمار كان يشرف على ويحضر احتفالات تخريج العسكريين والمتطوعين والطلاب والأشبال والزهرات والكشافة، ويرعى مسابقات كرة القدم وكرة السلة والجري السريع.
أبو عمار كان يساهم في إنشاء المدارس والجامعات والمعاهد، ويحدد حصص الفصائل من المنح الطلابية والعسكرية ويتابع شؤون المدارس والطلاب.
أبو عمار الخطيب، المحلل، المنظّر، الناطق الرسمي، الرئيس، المقاتل، الفدائي، الختيار، المهندس، العسكري، المناور، المفاوض، الدبلوماسي.
أبو عمار أحبّ كل المهن في العالم، وعشق كل الأدوار، واحتكر كل الوظائف، وشغل كل المناصب، واحتل كل المواقع.
أبو عمار لا يحب المعارضة ولا يقبل النقد والمساءلة، لا يحب أن يحاسب أحداً، ويرفض أن يحاسبه أحد. يعشق الأوامر ويهوى المحاورة والمجادلة، شرط أن لا تكون وجهة نظرك معارضة له.. ويعشقك لو كان موقفك موافقاً لموقفه وتحليلك ينسجم مع تحليله.
يقدّرك لو كنت بارعاً في المناورة، ويكرهك لو كنت جامداً وبطيء الحركة. يغضب منك إذا كنت تتعاطى من موقع الموظف، ويهتز منك إذا لم تكن لك روابط إقليمية ودولية، ولم تكن لك خطوط مع جهات نافذة عالمياً.

أبو عمار يعشق الأضواء ويحب الاختفاء.. إذا استدعت المهمة السرية، غاب ياسر عرفات عن السمع، وعشق الظلام، وامتهن التخفي، واستخدم التكتّم ومارس التضليل والمناورة.
وإذا استدعت المهمة المكاشفة، جلس في الضوء وأدار محرّك اتصالاته وعلاقاته، وخطب ونظّر..
الشعر حاضر أمامه، وآيات القرآن الكريم سهلة المنال عنده، والشعارات حاضرة في ذهنه، والطرفة أداته حين تعجز العبارات، والأحاديث النبوية يرددها أو يركّبها.
يبتسم كثيراً، يضحك عالياً، يقهقه أحياناً.. لكن تسبقه الدمعة باستمرار. ويبكي عند الحاجة، وما أكثر حاجات البكاء عند ياسر عرفات.

يقابل الكبار ويحتضن الصغار، يقبّل الفتيات والنساء، خصوصاً أبناء وزوجات وأمهات الشهداء.
يعتمر في مكّة المكرمة ويقبّل وجنة الإمام الخميني في طهران، يضع إكليلاً من الزهر على ضريح لينين في موسكو >
((لكلّ مقام مقال)) قاعدة استراتيجية عند ياسر عرفات.
يصيغ خطابه وتعبيراته حسب الظرف والمكان والزمان.
خطابه في قاعة جمال عبد الناصر في بيروت، يختلف عن خطابه أمام القمّة العربية. حديثه إلى صحيفة ((عكاظ)) السعودية غير حديثه إلى ((نيويورك تايمز)). حواره مع وفد من المسلمين في أوروبا غير حواره مع وفد من الاشتراكية الدولية، نصّه السياسي في جنوب لبنان يختلف عن نصّه السياسي في اجتماعات اللجنة التنفيذية أو المجلس الوطني.
فدائي في بيروت، إسلامي في طهران، تقدّمي في روما، اشتراكي في فيينا، بعثي في العراق، سلفي في الرياض، مجاهد في دمشق، تسووي في القاهرة، ليبرالي في باريس، مفاوض في بروكسيل، ثائر في بنوم بنه، مستضعف في نيودلهي، مقدس في دكا، ناصري في طرابلس الغرب، مفاوض في جنيف، رجل سلام في نيويورك.
أبو عمار رجل اللعبة ببراعة.. ذكي، ماهر، شاطر، صبور، ناسك، يجيد القفز والتنقل، سريع الحركة، لا يحب الثبات، يكره الجمود، يحب جمع الأوراق.

في علم السياسة.. أبو عمار سياسي لامع
في علم التحالفات.. أبو عمار متحالف ماكر
في علم التحولات.. أبو عمار متحول هائل

لأبو عمار فراسة هائلة في كشف الخصوم وسبر غور الألاعيب. خبير في اكتشاف الدهاليز، ضليع في علم المؤامرات، أستاذ في معرفة الخبايا، حكيم في كيمياء النفوس.

لديه حاسة شمّ هائلة تكشف الأنفاق وتفضح الأشراك، وتبطِل الخدع.
قرون الاستشعار عنده متطورة للغاية، يقرأ القادم ويعرف النهايات قبل وقوع الأحداث. لكنه لا يحب التبصير ولا التنجيم ويكره ضرب المندل.

يؤمن بالاستراتيجيات ويعشق التفاصيل.. أحياناً يسعفه التحليل، فينجح في القراءة ويحسن تلمّس الخارطة فيفلح في النجاة.

وأحياناً تخونه الرؤية ويعميه الدخان، وتخطئه المعطيات، فتقذفه السفينة بعيداً، ويخسر الأوراق ويضطر للمناورة، حتى يعود ويجد أرضية ثابتة يقف عليها ليواصل معركته.

من القدس إلى القاهرة، من القاهرة إلى الكويت، من الكويت إلى عمان، من عمان إلى بيروت، من بيروت إلى أثينا والقاهرة، من تونس إلى طرابلس، من طرابلس إلى باريس، من باريس إلى عمان، من عمان إلى الجزائر، من الجزائر إلى أوسلو، من أوسلو إلى واشنطن، من واشنطن إلى غزة، من غزة إلى رام الله، من رام الله إلى باريس، من باريس إلى القاهرة، من القاهرة إلى رام الله.

أبو عمار تنقل في عواصم كثيرة، وقابل شخصيات كثيرة، فحدّث كثيراً وخطب كثيراً.
أبو عمار شغل العديد من المواقع والمناصب، خدمته شخصيته وخدمته التطورات والتحالفات والتوازنات وخدمته اللعبة.

أبو عمار كانت له وجهة نظر.. قرأ اللعبة وحدّد عناصرها، ودخل فيها، وصار يتحرك معها وينسّق حركته على لحنها ويتحول مع تحولاتها.

وهنا كان خطأ أبو عمار الأبرز، قضية فلسطين قضية مبدئية حضارية تاريخية ثقافية دينية سياسية إنسانية.. لذلك فهي لها قوانينها الخاصة، ومنطلقاتها الخاصة ومرتكزاتها المعنية وآليات عملها المميزة.

لذلك كان من الخطأ إدخال القضية الفلسطينية في اللعبة وإبعادها عن منطلقاتها الروحية المتعارضة مع المادة.

أبو عمار إنسان فذّ وماهر.. يعمل بجد ونشاط قلّ نظيره عند معظم الزعماء في العالم. لكن عام 1993 حين وقّع على اتفاق أوسلو خانته اللعبة وعادته المعادلة وخاصمته المعطيات. فاضطر للإمساك بها حتى عام 2000 في قمّة كامب ديفيد، حينها تبيّن له أن اللعبة وحش مفترس وغول ضخم وديناصور هائل وحيوان شرس. آثر عرفات الثبات قليلاً فصار بين دفّتين: لا هو يستطيع التراجع فيخسر كل ما عمل له، ولا هو يستطيع التقدّم فيخسر كل ما بقي لنا. فكان أن حاصرته اللعبة في رام الله لتأكله شيئاً فشيئاً.. تأكل موقفه ونضاله وما قدّمه. ولتأكل حقوقنا ونضالنا وأرضنا ووطننا وقادتنا ومجاهدينا وأبناء شعبنا.

أبو عمار عمل طوال خمسين عاماً ومات.. عزاؤنا في رحيل الأخ أبو عمار أن الشعب الفلسطيني متمسك بالمقاومة ويرفض كذلك التنازل عن القدس وحقّ العودة.